مقدمة
ينقسم التراث وفقًا إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى تراث ثقافي مادي وتراث ثقافي غير مادي، يندرج التراث الثقافي المادي ضمن ثلاث مجموعات واسعة هي: المعالم، والمواقع، ومجموعات المباني. بينما يُعرَّف التراث الثقافي غير المادي بـ “الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات”، ويمكن لهذا التراث أن يظهر في مجالات مثل “التقاليد وأشكال التعبير الشفهية، فنون الأداء، الممارسات والطقوس والاحتفالات الاجتماعية، المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعية والكون، الفنون الحرفية التقليدية.”
وفي اليوم العالمي للتراث الموافق 18 أبريل والذي أقرته منظمة اليونسكو من أجل حماية التراث الإنساني في جميع دول العالم نريد التحدث عن جُوَّن الإسكندرية وذلك في تمثيلها كتراث ثقافي مادي طبيعي في كونها خليج طبيعي وتراث ثقافي غير مادي تضم حدودها ذكريات وروايات مختلفة، واعتمدنا في تجميعها على أسس التأريخ الشفهي والروائي.
جُوَّن الإسكندرية: شهادة وتوثيق
شهد شاطئ الإسكندرية كل ما طرأ على مدينته من تغييرات، فشهد في 1901- 1912 بناء طريق يربط بين قصر المنتزه شرقًا وقصر رأس التين غربًا، أُطلِق عليه فيما بعد طريق الكورنيش. وشهد في عام 1943 انتشار الشواطئ العامة من السلسلة حتى قصر المنتزه، وبناء الكبائن ككابينة راهبات نوتردام دي سيونNôtre Dame de Sion وكبائن دار عيسى وستانلي، وبناء الكازينوهات مثل كازينو الشاطبي والسرايا وميامي وسبورتنج وغيرهم، وبُني على ضفته المقامات كمقام الشاطبي وسيدي أبو العباس وسيدي بشر، وتغيرت أسماء شواطئه وشوارعه مرارًا وتكرارًا، ولكنه احتفظ ببعض من ملامحه وأبرزها خلايجه أو أقواسه أو كما يسميها أهل مدينته الجُوَّن (جمع جونة) والتي تعني خليج طبيعي نشأ من انحراف خط الساحل عن مساره الطبيعي وتُكوِّن شكل قوس. وتمدت تلك الجُوَّن من المنتزه حتى الميناء الشرقي بطول سبعة عشر ونصف كيلومتر.
وكحال الكثير من المسميات والمصطلحات، نسى الكثير من أهالي الإسكندرية أسماء الجُوَّن السكندرية، تلك الأقواس التي تضم حكاوي وروايات عن المدينة وأهلها، وتعكس حياة استمرت حتى الماضي القريب حيث ذهب إلى كبائنها وشاليهاتها جميع طبقات المجتمع.
مع قلة المصادر، كان ولابد الاعتماد على روايات وذكريات السكندريين وكذلك الأدب الذي يساعد على رسم العلاقة بين أهالي الإسكندرية والبحر، عندما كانت لفظة الجونة جزء من حياتهم اليومية حيث تذهب إليها العائلة منذ الشروق حتى الغروب في الصيفية، ومنذ الظهيرة حتى المغرب أثناء الدراسة والأجواء الشتوية المُحتملة في ذاك الزمن قبل تجلي التغيرات على الكورنيش من نحر للشواطئ ومصدات الموج لتقليل أخطار التغييرات المناخية وغيرها من التغييرات التي حالت بين البحر ورواده، بعدما كانت مصيف مصر الأول حسب موقع الإدارة المركزية للسياحة والمصايف.
فيحكي لنا أحد رواد مجموعة “إسكندرية زمان” على الفيسبوك عن جُوَّن الإسكندرية الثلاث: جونة ستانلي الممدة من فندق صن رايز حاليًا حتى كازينو السرايا مطلع كوبري ستانلي، وجونة الخربان في سابا باشا المبني عليها الآن نادي المهندسين وتحويلها إلى شاطئ لرواده بعد بناء مصدات للأمواج، وجونة جليم التي تُعد امتداد لجونة الخربان وتنتهي في منطقة سان ستيفانو.
سُميت جونة ستانلي نسبةً إلى الصحفي الرحالة الإنجليزي هنري مورتون ستانلي مكتشف منابع النيل. وكانت الجونة مخصصة قبل بناء الكورنيش للأجانب فقط، وبعد بناء الشواطئ والكبائن في عام 1943 صارت الجونة ملاذًا للجميع حتى يومنا هذا. استمرت البلدية في العام نفسه في بناء الكبائن بطول الكورنيش، حتى بنيت كبائن جونة جليم أو جليمونوبلو- نسبةً إلى وزير الخارجية اليوناني جليمونبلو والذي التحق بالعمل كنائب القنصل اليوناني بالإسكندرية- بينما سمى أهل الإسكندرية جونة الخربان لأنها كانت جونة “خربانة” غير مؤهلة للسباحة بفعل التيارات والدومات والأمواج العالية، فصارت ملجأ لهواة الصيد ومحبي الغطس. وحافظت الجونة على شاليه واحد أعده الكثير من أهالي الإسكندرية تصميمًا هندسيًا مبدعًا، ورسمه الفنان الانطباعي الراحل شفيق شاروبيم في رسمة بعنوان “شاطئ الراهبات Nuns’ Beach” عام 1961، مما يعني أن كابينة الراهبات حافظت على وجودها حتى بناء نادي المهندسين عام 1975.
بعد مشروع توسيعات الكورنيش هُدِمت كبائن جليم وكابينة الراهبات، وتحول حمام وكازنيو الشاطبي إلى مجمع كافيهات، وأُهمل كازينو السرايا (لاحظنا بعض أعمال التجديد مؤخرًا)، ولم يتبقى إلا كبائن ستانلي التي تتكون من 381 كابينة، وكانت مبنية على طراز أكشاك البلدية وأُعيد تصميمها وترميمها بطرازٍ مختلف عام 2017 (الإدارة المركزية للسياحة والمصايف). فلم يتبقى حول تلك الكبائن والمنشآت إلا التاريخ الشفهي الذي نجمعه من روايات أهل المدينة، ونسميه في تلك الحالة تراث ثقافي غير مادي، والذي سنحاول خلال الفترة القادمة رصده وتجميعه تباعًا.