الجزر الحرارية في مدينة الإسكندرية| دراسة في المُناخ التطبيقي

في السنوات الأخيرة، فرضت الظروف الطبيعية على الإنسان ضرورة متابعة التغيرات الملموسة والواضحة في المناخ. إذ وصلت درجات الحرارة إلى مستوياتٍ غير مسبوقة في التاريخ، مما يُشكِّل تهديدًا خطيرًا ويعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والطبيعة. لقد أسهم التقدم الصناعي بشكل كبير في هذا التدهور؛ حيث استخدم الإنسان الموارد بدون اعتبار للتأثيرات السلبية التي ستنجم عنها، كما أن تزايد عدد السكان ونموهم المستمر مع اعتماد أنماط حياة تشجع على الاستهلاك المفرط، يترتب عليه زيادة التداعيات البيئية والاقتصادية. يرتبط هذا بطلب مستمر لزيادة الرفاهية، مما يُؤدِّي إلى ابتكار أساليب جديدة وغير صحيحة تسهم في التغير المناخي. وتعد درجات الحرارة أحد العوامل الرئيسية في التغير المناخي، حيث تُؤثِّر على باقي العوامل المناخية وتدفعها نحو التغير والانحراف. على الرغم من أن معظم التنبؤات تشير إلى تداعيات كارثية لارتفاع درجات الحرارة، إلا أن ذوبان الثلوج في القطبين وقمم الجبال القارية وارتفاع مستوى سطح البحر يشكلان الهاجس الحقيقي للبشر وأهم تلك التداعيات، خاصة بالنسبة لسكان المناطق الساحلية المنخفضة أو مجتمع الخطوط الأولى. وتشير المؤتمرات الدولية المختصة بالتغير المناخي إلى اهتمام العالم بهذه القضية وتأكيد أثرها الخطير على الكوكب. وتظهر أيضًا أن الدول الفقيرة هي الأكثر تضررًا وتعجز عن تنفيذ خطط التكيف والتخفيف من آثار التغيرات المناخية المحتملة رغم مشاركتها المتواضعة في الوصول إلى هذه المشكلة في حين أن هناك حكومات تضع بالفعل وتنفذ خطط للحماية من آثار التغير المناخي وتتخذ إجراءات للتكيف والتخفيف من آثاره.

لذلك فإن دراسة الجزر الحرارية في مدينة الإسكندرية؛ وهي أحد مجتمعات الخطوط الأولى، هو موضوع فائق الأهمية، فإن ارتفاع درجات الحرارة والظواهر الجوية المتطرفة من أهم التحديات المناخية التي تواجه المدينة بجانب خطر الغرق بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر والعواصف الممطرة. وتكمن خطورة الجزر الحرارية في إنها تغير هادئ، على الرغم من إنه يطيل كل فرد في المدينة وله تداعيات ضارة على الصحة والإنتاج ونوعية المعيشة والعمل. إذ قدرت دراسة أجريت عام 2022 أن الأشخاص في جميع مدن العالم يفقدون ما يقرب من 44 ساعة نوم كل عام بسبب عدم انخفاض الحرارة ليلاً، مما يؤدي إلى الإصابة بإجهاد حراري وأمراض أخرى[1].

بالفعل، هناك العديد من الدراسات التي تناولت الحالة المناخية في الإسكندرية[2]، وتحتاج الدراسات التفصيلية لاتجاهات المناخ في الإسكندرية إلى تتبع وتحليل البيانات المناخية لفترات زمنية كافية، بالإضافة إلى مراعاة التغيرات التي طرأت على المجتمع السكندري. إذ أن للتغيرات الديموغرافية والتطور العمراني دور في تأثير الظواهر المناخية على البشر والمدينة. وتعددت الدراسات التي اهتمت بالجزر الحرارية في كثير من مناطق العالم وفي مصر، وكذلك الدراسات التي اهتمت بالجزر الحرارية في بعض مدن مصر والإسكندرية تحديدًا، فمنها من اهتم بالجزر الحرارية في المدينة من وجهة نظر المُناخ الحضري الذي يرصد الواقع الفعلي لفترة زمنية قائمة، فكان واصف ومحلل لما هو عليه الوضع وقت الدراسة مثل الدراسة القيمة[3] لشيماء السيد عبد النبي. وربما كان السبب في عدم رصد المُناخ الحضري لتاريخ الظاهرة إلى أن المساحة المدروسة في الجزر الحرارية تكون صغيرة إلى حدٍ كبير، وبالتالي يصعب الحصول على بيانات مُناخية لعدة سنوات تُمكِّن الباحث في المُناخ الحضري من تتبعها ورصد ما طرأ عليها من تغير والتنبؤ بما ستؤول إليه في المستقبل. ومن هذه الدراسات عن الجزر الحرارية خارج الإسكندرية دراسة علياء موسى في مدينة بورسعيد[4] ودراسة محمد هاني في مدينة أسيوط[5].

تتضمن هذه الورقة الدراسية تحليلًا لدرجات الحرارة في مدينة الإسكندرية في الفترة من 2000 إلى 2020 لتوضيح وجود جزر حرارية تُؤثِّر على نمط الحياة وطبيعة المدينة بهدف فهم اتجاهات درجات الحرارة في المستقبل. لذلك تم تقسيم مدينة الإسكندرية إلى أربعة أقسام: شرق ووسط وغرب وجنوب، لتحليل البيانات المناخية. ومع ذلك، لتحقيق دراسة مكانية أدق وتحديدًا جغرافية للجزر الحرارية، قد يكون من الضروري تقسيم المدينة إلى أقسام أصغر في حالة توفر مراصد مناخية مُوزعة على جميع أنحاء المدينة لتوفير بيانات مناخية شاملة ومتاحة تُمكِّن الباحثين من إجراء دراسات أعمق وأكثر تفصيلاً، مما يساهم في فهم أفضل للجزر الحرارية وتأثيرها على البيئة ونمط الحياة في المدينة، وهي ضرورة لاتخاذ التدابير والاستراتيجيات المناسبة للتكيف مع التغيرات المناخية وتخفيف تأثيرها السلبي.

وتهدف هذه الدراسة إلى استكشاف مبدئي لاتجاهات درجات الحرارة في المدينة على المدى الطويل وتوفير تحليل ونتائج مُعبِّرة عن التغيرات المناخية المُتوقعة. وتعتمد الدراسة على منهج البحث التاريخي لفهم النمط الزمني لدرجات الحرارة في الماضي وتتبع التغيرات على مر الزمن، من خلال تحليل السجلات المناخية والبيانات التاريخية ذات الصلة منذ سنة 2000. كذلك تركز الدراسة على عرض وتحليل البيانات المكانية والجغرافية لفهم تأثيرها على درجات الحرارة في مناطق مختلفة من المدينة. كما تتبع المنهج الوصفي التحليلي باستخدام أساليب الإحصاء لتحليل البيانات والتوصل إلى استنتاجات باستخدام معاملات الاختلاف والارتباط لتحديد العلاقات والتأثيرات المحتملة بين وجود الجزر الحرارية والأسباب الطبيعية والبشرية في المدينة. وتعتمد الدراسة على الأشكال والخرائط لعرض البيانات المُعقدة، لتيسير فهم نتائج البحث والتعامل مع الاستنتاجات والتوصيات الناشئة عنها. وباستخدام هذه المنهجيات المتنوعة، تسعى الدراسة إلى توفير رؤية شاملة لوجود الجزر الحرارية في مدينة الإسكندرية وفهم تأثيرها على الحياة والبيئة المحلية.

تفحص الدراسة البيانات المتاحة على محطات الأرصاد لفترة تمتد من عام 2000 إلى عام 2020 في عموم المدينة، وهي البيانات المتاحة بصورة شبه كاملة على محطات الأرصاد[6] لتحديد الاتجاهات العامة للحرارة، مما يوفر فهمًا أوليًا لتباين وتغير درجات الحرارة عن المعدل العام في عموم الاسكندرية خلال فصول السنة الأربعة ويساعد في تحديد الشذوذ والانحراف الحراري الذي قد يؤدي إلى وجود الجزر الحرارية. ثم تأخذ الدراسة اتجاهًا أكثر تفصيلاً حيث تُقسم مدينة الإسكندرية إلى أربعة مناطق مُناخية: شرق ووسط وغرب وجنوب، إلا أنها ركزت على ثلاثة مناطق حيوية تُمثِّل المدينة وهي شرق ووسط وغرب بنفس آلية الدراسة على كل منطقة وفي نفس السنوات لمعالجة البيانات بالطرق العلمية في حال عدم توفرها أوليًّا. وجرى استبعاد منطقة الجنوب لقلة كثافتها السكانية وظروفها الجغرافية المختلفة؛ إذ أنها تتكون من ظهير صحراوي ورقعة زراعية كبيرة نسبيًا بالمقارنة مع المناطق الأخرى بالمدينة جعلت منها منطقة مختلفة جغرافيًا ومناخيًا عن المناطق الثلاثة الأخرى التي اختصتهم الدراسة.


[1] مونتريال ديلي، “ما السبب وراء ارتفاع درجات الحرارة خلال الليل وما هي الأضرار المحتملة لهذه الظاهرة؟” 2 يوليو 2023. https://tinyurl.com/4sskb9f5

[2] الإنسان والمدينة للأبحاث الإنسانية والاجتماعية (2022)، “هل تغرق المدينة؟ الإسكندرية في مواجهة التغير المناخي”، https://hcsr-eg.org/?p=4564

[3] شيماء السيد عبد النبي (2010)، الجزر الحرارية في الإسكندرية، رسالة ماجستير، جامعة الاسكندرية.

[4] علياء محمد موسى موسى (2020)، شدة الجزيرة الحرارية في مدينة بورسعيد باستخدام نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب جامعة دمياط.

[5] محمد هاني سعيد (2016)، “الجزر الحرارية في مدينة أسيوط وعلاقتها براحة الإنسان”، مجلة أسيوط للدراسات البيئية، العدد الثالث والأربعون.

[6] محطة شرق الإسكندرية كود المحطة رقم 62318099999، محطة الأرصاد الموجودة في برج العرب والكود الخاص بها هو 62360199999، المصدر geographic.org/globalweather/egypt/index.html  

اقرأ ايضًا:

اشترك في قائمتنا الأخبارية