تضاعفت في السنوات الأخيرة المخاوف من تلوث الهواء داخل المدن، خاصةً بعد تفاقم الآثار الناتجة عن التغير المناخي. ولعل ذلك يجعلنا نتساءل: ما هي المعايير التي وضعتها المنظمات العالمية المعنيِّة بقضايا التغير المناخي وآثاره للحدَّ من تأثير التغييرات المناخية على جودة الهواء داخل المدن؟
سعيًا إلى الإجابة على هذا التساؤل، تبنت الأمم المتحدة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية عدة مؤتمرات تمحورت نتائجها حول إيجاد الحلول الوقائية التي تحمي الإنسان في المدينة من أخطار الاحتباس الحراري. كما أقرت ضمن هذه الحلول ضرورة أن يصل نصيب الفرد من المساحات الخضراء إلى 6 أمتار مربعة داخل المدينة حسب المتوسط العام للدول حول العالم[1]. على النقيض، عند النظر إلى وضع المساحات الخضراء الحالي في مصر، يلاحظ تناقص مستمر للمساحات الخضراء في مقابل الزيادة المضطردة للحيز العمراني، مما يؤدي إلى تناقص نصيب الفرد من المساحات الخضراء مع مرور الوقت. الملفت أيضًا أن تناقص نصيب الفرد من المساحات الخضراء داخل المدينة يؤدى بدوره إلى زيادة درجة الحرارة داخل المدن، وزيادة نسب تركيز الغازات الدفيئة في الجو، مما يُؤثِّر على الصحة النفسية والجسدية للإنسان. أشارت منظمة الصحة العالمية أن آثار التلوث الهوائى تتسبب فى وفاة 7 ملايين نسمة كل عام، ورصدت أن واحد فقط من كل عشرة أشخاص يستنشق هواءًا نقيًا كمتوسط عالمي. وهذان مؤشران يعكسان حجم المشكلة البيئية الراهنة والتى يجب اتخاذ كل السُبل الممكنة للتقليل من آثارها[2].
يتفاقم حجم التأثير على المدن دونًا عن باقي المحلات العمرانية، وينتج عن ذلك آثار كبيرة تعاني منها البلد ككل، وذلك بحكم أن المدينة هي الموطن الرئيسي لاستقرار الإنسان؛ حيث يعيش نحو 50% من سكان العالم بالمدن بما يعادل 4.4 مليار نسمة حسب إحصائية 2022. بالتبعية، تتأثر القدرة الإنتاجية لدى الإنسان، وما يرتبط بذلك من آثار اقتصادية واجتماعية كبيرة على الدولة، حيث يسهم سكان المدن حول العالم بما يُقدر بـ80% من إجمالي الناتج المحلي العالمي[3]. وتُعد المساحات الخضراء داخل الرقعة العمرانية بالمدينة أداة هامة لتقليص الآثار الناتجة عن الاحتباس الحراري وتحسين جودة الهواء.
تُوضِّح هذه الورقة البحثية ضوابط ومعايير توزيع المساحات الخضراء داخل المدن، ومدى ملائمة الوضع الحالي في مصر مع هذه المعايير، وتأخذ مدينة الإسكندرية محل حصر، ودراسة للمساحات الخضراء داخل الحيز العمراني للمدينة.
تعد المساحات الخضراء من أهم الضروريات للدول الجادة في نيتها للحد من آثار تلوث الهواء والاحترار العالمي، ناهيك عن كونها عنصر أساسي للصحة النفسية والاجتماعية للبشر بالمدينة. وبالتالي، فإن درجة تلوث الهواء بالمدن وآثارها البيئية والاقتصادية والاجتماعية مرتبطة بشكلٍ مباشر بالتزام الدولة بمعايير التخطيط للمساحات الخضراء داخل المدن من عدمه[4]. وبالنظر بعين التدقيق والملاحظة الموضوعية للوضع القائم بالمدن المصرية بشكل عام، فإننا نلاحظ حجم الآثار المترتبة على التناقص المستمر للمساحات الخضراء، كما نلاحظ ازدياد كبير في نسب الوفيات بسبب أمراض القلب والجهاز التنفسي التي ترجع مسبباتها في المقام الأول إلى تلوث هواء المدن بسبب زيادة تركيز الغازات الدفيئة وكثرة العوالق. ولا يمكن أن نغفل عن أثر التلوث الهوائي في تدهور الصحة النفسية والذهنية لإنسان المدينة خاصًة بالمدن عالية الكثافة. ولعلّ تلك المساحات الخضراء هي إحدى العناصر الأساسية التي كانت تحِدّ من هذه الآثار، وفي تناقصها وفقدانها في بعض المدن الأثر الأكبر في زيادة حِدة التلوث الهوائي داخل هذه البقاع الحضرية من البلاد[5]. تبرز أهمية تسليط الضوء على المسطحات الخضراء من الناحية الإحصائية والمعلوماتية، وكذا الحقوقية من حيث حق الإنسان في المدينة، والحق في الحدائق والمجال العام. فيما يلي تحديد للوضع المستهدَف، والوضع القائم، لتتضح أبعاد المشكلة بالمقارنة بينهما، تمهيدًا لوضع الحلول العملية الممكنة بهدف تغيير الوضع الحالي.
الهوامش
[1] Borelli, Simone et al, Urban Forests: A Global Perspective, FAO, Rome 2023. fao.org/3/cc8216en/cc8216en.pdf
[2] أخبار الأمم المتحدة، “منظمة الصحة العالمية: الأدلة واضحة، تغير المناخ له تأثير خطير على حياة البشر وصحتهم”، 5 ديسمبر 2018. https://tinyurl.com/4bezrv9p
[3] البنك الدولى، “التنمية الحضرية”، 3 ديسمبر 2023. https://www.albankaldawli.org/ar/topic/urbandevelopment/overview
[4] إيمان عبد العظيم، “تغير المناخ في المناطق الحضرية”، مركز دعم واتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء، 6 أكتوبر 2023. https://www.idsc.gov.eg/Article/details/8863
[5] صحيفة الشرق الأوسط، “5 فوائد صحية للمساحات الخضراء في المناطق السكنية”، 13 مايو 2022. https://n9.cl/ezrd9