عادةً ما تلجأ السيدات والفتيات إلى الاختيارات الآمنة حتى إن لم تكن الأسهل باقتناعٍ تام، عملاً بمبدأ “أبعد عن الشر وغني له”. ومع تفحش جرائم التحرش والاعتداءات الجنسية- التي بدأت بظاهرة “المعاكسات” ولم تجد من يتصدى لها- وخوفًا من تبعات الشكوى والإبلاغ، حاولت السيدات قدر الإمكان تقليص وتيرة استخدام المواصلات العامة. وعند ظهور تطبيقات النقل الذكي الخاصة، بادرن باستخدامها. ومع الوقت صارت اختيارهن الأول خاصةً مع المسافة طويلة أو لمن ليس لديها معرفة كافية بالطريق، مطمئنات تمامًا أن هذه الشركات ستوفر الأمن والسلامة. فالشركات تؤكد أنها تكفل كل سُبل الأمان، بدايةً من التحري على السائق والتأكد من صلاحية المركبة، حتى إمكانية مشاركة مسار الرحلة مع آخرين، والتزام السائق بالطريق المرسوم في التطبيق. كما أن بعض هذه التطبيقات لا تشارك رقم العملاء مع السائق زيادةً في الاحتياط. وخلال فترة انتشار فيروس كوفيد-19، قدّم تطبيق أوبر على سبيل المثال تحذيرات مسجلة وخطوات على السائق والعميل الالتزام بها.
جميعها سبل اعتقد الجميع أنها كافية للحفاظ على سلامة الركاب. وكانت السيدات والفتيات من بين أكثر الفئات إقبالاً على هذه الشركات، حتى إن كثير منهن يضحين بالجزء الأكبر من دخلهن الشهري مقابل التماس بعض الأمان المفقود في وسائل النقل الأخرى، من غياب الازدحام والتلامس الجسدي وتقليل الاحتكاك مع السائق ووجود خط سير واضح (خاصةً مع عدم معرفة المستخدمة بالطريق) وطبعًا معرفة هوية السائق.
ولكن أثارت واقعة اتهام سيدة سائق أوبر بالتعدي عليها مطلع مايو الجاري جدلاً كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر وسائل الإعلام وبين مختلف فئات المجتمع، حتى وصلت إلى البرلمان؛ حيث تقدمت نائبة بطلب إحاطة لوقف نشاط هذه الشركات، ورفع محامي دعوى أمام القضاء الإداري بإلغاء التراخيص.
وفيما أطلق مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي حملة لمقاطعة شركة أوبر وحذف التطبيق، ظهرت العديد من الشكاوى- خاصةً من السيدات- تسرد وقائع محاولات خطف واعتداءات وتحرش من السائقين، ازدادت بعد الحادثة الأخيرة واشتعلت مع حادثة حبيبة الشماع التي توفت في مارس الماضي بعد مضاعفات قفزها من سيارة نقل ذكي- تابعة لأوبر- قبل ثلاثة أسابيع خوفًا من تعدي السائق عليها.
لكن، هل المنع هو الحل؟ وهل أثار الجدل الحالي- على أهميته- مختلف جوانب الموضوع؟
لبت هذه الشركات- التي بدأت مع شركة أوبر، ثم كريم، ثم شركة النقل الذكي التشاركي بين المحافظات سويفل، ثم ديدي، ثم إن درايف- حاجات ملحة لشرائح مختلفة من المستخدمين ووفرت فرص عمل وسدت فجوات سوقية كبيرة نتيجة غياب شبكة مواصلات عامة كفوءة وآمنة ونظيفة تغطي المحافظات الكبيرة والمزدحمة كالقاهرة الكبرى والإسكندرية، وعدم وجود تعريفة عادلة ومُلزمة للسيارات الأجرة (التاكسي)، وارتفاع أسعار شركات التوصيل الخاصة (الليموزين) وعدم توفرها طول الوقت. كما قدمت هذه الشركات ميزة تنافسية تشي بمعدلات عالية من الأمان والراحة من خلال معرفة بيانات السائق والسيارة، وتحديد خط السير، ومعرفة السعر التقديري للرحلة مسبقًا، وإمكانية الدفع بالبطاقات البنكية أو نقدًا، وغيرها من المزايا التي جعلت شرائح كبيرة من المستخدمين يقبلوا عليها رغم ارتفاع سعر الخدمة في كثير من الأحيان.
لكن في الآونة الأخيرة تدهورت مستويات الخدمة المُقدمة، وتضاعفت الأسعار، وازدادت درجة الخطورة حتى أصبحت تهدد أرواح الكثير من المستخدمات، وانهتها بالفعل في حالة المرحومة حبيبة الشماع التي آثرت القفز من سيارة متحركة على طريق سريع لتنجو بنفسها من شبح الاعتداء الجنسي، في تجسيدٍ أليم للواقع اليومي للكثير من السيدات في مصر حتى وإن حاولن بشتى الطرق الهروب منه، أو السكوت عنه ظنًا أن ما باليد حيلة، وأنها مجرد “أحداث فردية” تحدث بنسبة ضئيلة كما يدّعي المدافعون عن الشركة. إلا أن توالي الأحداث وبالأخص بعد الواقعة الأخيرة، واختيار الفتاة أن تتكلم ولا تنتظر “اعتذار” الشركة بعد إرسال شكوى، شجع آخرون. فنشرت صفحة Speak up “اتكلمي” منذ عدة أيام أن سائق تابع لشركة “ديدي” حاول الاعتداء جنسيًا على طالب في المرحلة الإعدادية (المتوسطة) عمره 15 عامًا في منطقة غير مأهولة بالسكان، ولكنه استطاع أن يفلت منه عندما أخبره “اهدى يا عمو، ولما نوصل ح عملك اللي انت عاوزه”. فصبر المعتدي حتى وصل إلى بوابة المجمع السكني المغلق حيث يسكن الطالب، فصرخ مستغيثًا بالأمن الخاص الذين نجحوا في التحفظ على السائق حتى وصول الشرطة. وتتولى السلطات التحقيق مع السائق محبوسًا.
وتتابعت شهادات لضحايا اعتداءات جنسية من قبل بعض سائقي مختلف شركات النقل الذكي العاملة في مصر، واجمعت على أن المعتدي يختار دائمًا شوارع قليلة أو منعدمة الإنارة، أو مناطق غير مأهولة أشبه إلى الصحراء، أو كباري وطرق سريعة، لينفذ جريمته ويصعب على الضحية الهروب أو طلب النجدة، ولا شهود يثبتوا الواقعة.
علقت إحدى المشاركات على منشور صفحةSpeak up حول حوادث الاعتداء الجنسي في المواصلات العامة “يعني مش فاهمة، نركب حصنة بعد كده ولا أيه؟” وكأن هذا هو الحل الوحيد لإنقاذ الضحايا من مواجهة الاعتداءات التي استغل فيها المعتدي أي ثغرة متاحة. ففي التطبيقات الذكية يستغل إتاحة أرقام العملاء ويرسل رسائل غير مرغوب فيها للضحية، وفي السيارات الأجرة مثل التاكسي والتوكتوك يستغلوا افتقار الطرق الجديدة إلى الخدمات والأمن وانعدام الرقابة. كما يستغل المعتدي الزحام في مركبات النقل العام مثل الأتوبيسات.
ومع كل تلك الأحداث، تميل الضحية إلى حلول مثل شراء سيارة خاصة للقادرات على تحمل التكاليف المادية، أو دراجة أو دراجة هوائية (موتوسيكل) وتحمل العبء المادي وتجاهل “قيم الأسر المصرية” التي تمنع الفتيات من ركوبها مع سن معين. ومن لا تستطع إليه سبيلاً لا يوحد أمامها سوى المواصلات العامة ومواجهة الخطر، أو اللجوء للحلول البدائية مثل “الموتو رجل” ومقابلة التحرش وجها لوجه، أو البعد عن الشر تمامًا والمكوث في البيت بلا حركة.
ماذا تفعل السيدات إذًا؟
بعد الحادثة الأخيرة- المنظورة أمام النيابة العامة حاليًا- تشاركت العديد من السيدات نصائح لحماية أنفسهن خلال التنقل اليومي، ورأينا انتشار لمبادرات مجتمعية استنادًا على مفاهيم التضامن النسوي والتشاركية مثل “وصليني”؛ وهو مجموعات على تطبيق واتس أب لسائقات في مناطق مختلفة من القاهرة الكبرى يعرضن توصيل سيدات وأطفال حصرًا، ومعظمهن لا يمتهن قيادة السيارات لكنهن فقط يمتلكن سيارات ويعرضن توصيل سيدات على طريقهن اليومي أو في أوقات مناسبة لهن. وضعت السيدات طريقة حساب المشوار بوضوح للسائقة والراكبة، ومع انتشار المبادرة حاولت البعض تطبيقها في مناطق مختلفة، بينما تعمل أخريات حاليًا على هيكلة المشروع وتحويله إلى تطبيق صديق للمستخدمات.
بالتوازي، تشاركت السيدات عبر المنصات المختلفة نصائح للدفاع عن النفس، وانتشرت إعلانات حصص الرياضات القتالية الموجهة للسيدات، وأعلنت الكثيرات أنهن أضفن آلة حادة صغيرة في حقائبهن الشخصية رغم علمهن بتجريم هذا الفعل، بينما اشترت أخريات أدوات للدفاع عن النفس من صاعق كهربائي وغيره، وتشاركن طريقة عمل رذاذ الفلفل في المنزل.
شمرت السيدات عن سواعدهن أيضًا وتقدمن بمقترحات لمواجهة هذه الحوادث؛ لم يخترعن العجلة قطعًا لأنها كلها إجراءات منطقية ومتبعة في معظم الدول العاملة بها هذه الشركات متعددة الجنسيات، ومنها:
- تفعيل إجراءات محاسبة السائقين وصاحب السيارة مع أي تجاوز.
- إلزام الشركات بإجراءات أمان إضافية من خط ساخن للاستغاثة ووضع كاميرات مراقبة داخل السيارة.
- التحقيق الجدي مع كافة الشكاوى المُقدمة، وتحويل المُشكو في حقه إلى الجهات القضائية إن لزم الأمر.
- تحميل الشركات مسئوليتها بصفتها مقدم خدمة وليس وسيط بين المستخدمين والسائقين، وتصعيد الإجراءات للشركات المخالفة من غرامات مالية حتى سحب ترخيص العمل في مصر.
- العمل على قاعدة بيانات موحدة للسائقين بين كل الشركات، خاصةً أن السائقين يعملوا بين مختلف الشركات بالفعل.
بالإضافة إلى هذه الإجراءات التنفيذية، لا يمكن غض الطرف عن أهمية توفير عناصر الأمان على الطرق السريعة والجديدة من إنارة وخدمات طرق وكمائن متحركة. بنظرة سريعة، نجد أن معظم الحوادث الأخيرة كانت في طرق جديدة بين المجمعات العمرانية الجديدة (الشروق والتجمع بالقاهرة الجديدة في الحالتين المشار إليهما هنا). هل السائقون في باقي المحافظات أو الأحياء أكثر تمسكًا بالأخلاق الحميدة والقانون، أم هل المناطق الجديدة غير المأهولة بالسكان والتي يتشدق بها الإعلام علينا ليل نهار بوصفها إنجازات تحتاج أكثر من مجرد طريق سريع يلائم المواطن الذكر ميسور الحال الذي يمتلك سيارة حديثة يقطع بها الطريق موفرًا عدة دقائق من وقته الثمين؟ أين الطرق المغطاة بشبكة مواصلات لباقي المواطنين من غير أصحاب السيارات؟ أين وسائل الأمان؟ أين الإنارة ليلاً؟ أين خدمات الطريق في حالة الطوارئ؟
ويبقى السؤال: إلى متى تضطر السيدات إلى اتخاذ إجراءات مبالغ فيها لمجرد أمل وصولهن إلى وجهة ما والعودة منها في سلامٍ منشود؟ ومن يتحمل العبء النفسي لكل هذا يوميًا (لأن العبء المالي والوقت والجهد تتحمله النساء وحدهن)؟ وأين المفر من الحصار المغلق الذي تعيشه السيدات وتقييد حريتهن في التنقل الآمن؟ ومتى سيتحمل المجتمع مسئوليته في التخلص من رهاث الأفكار التي تلوم الضحية لأنها “كانت بره البيت لوقت متأخر” أو لأنها “غير محجبة“؟ ومتى نجد الحد الأدنى من المواثيق الإعلامية المتعارف عليها في التغطية الإعلامية لهذه الحوادث، فلا فتنشر منصات مثل القاهرة 24 صور الضحية في الحادثة الأخيرة من على حساباتها الشخصية دون استئذانها، وتخفي تمامًا صورة المعتدي، رغم اعترافه بالجريمة بعد القبض عليه (قبل أن يغير أقواله وينكر لاحقًا)؟ وكيف تلتزم الشركات بمسئولياتها وواجباتها ولا تكتفي الشركة الأم بإرسال خطاب اعتذار، ولا تتخذ أي إجراءات لتطوير التطبيق للحفاظ على سلامة مستخدميه؟ ومتى تضطلع الجهات التنفيذية والرقابية بدورها في توفير الأمان الغائب للسيدات بوضع سياسات وإجراءات تمنع مثل تلك الاعتداءات، وتوفير طرق آمنة للجميع، وتشجيع الضحايا على الإبلاغ، والتسريع من وتيرة التحقيقات، وتغليظ العقوبات على المعتديين، بجانب تطوير قانون تنظيم خدمات النقل البري للركاب باستخدام تكنولوجيا المعلومات، ليضم سياسات حماية المستهلك مع مراعاة حرمة الحياة الخاصة التي يكفلها الدستور؟ ومتى تتحول الشعارات الرنانة إلى واقع ملموس وفارق في الحياة اليومية لـ”نصف المجتمع” حتى لا تلوم وسائل الإعلام و”قيم الأسر المصرية” الضحية/ الناجية؟!